خطبة مفهوم الحرية في الإسلام
بتاريخ 11جمادى الآخرة1435هـ 11/4/2014 لــــ "إبراهيم البغدادي" سبها - ليبيا
الخطبـــــــــــــــــــــة الأولـــــــــــــــــى
الحمدُ لله الكبيرِ المُتعال، ذي العزَّةِ والجَلال، لهُ الحَمدُ في الأُولى والآخرة، ولهُ الحكمُ وإليهِ الْمَرَدُّ وَالْمآل، وأشْهَدُ أن لَّا إِلَهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريك له، وأشهدُ أن مُحمَّداً عبْدُهُ ورسُولُه، طيِّبُ الخِصَال، صادِقُ الْفِعال، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وَالْآل، وَسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا اللهَ عبادَ الله، وراقِبوهُ في السرِّ والعلَن؛ فإنَّ اللهَ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور، واعلموا أنَّ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله، وَأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَعْظمَ ولا أبلغَ في النُّفُوس من نِعمةِ الْإِسلام، والانقيادِ لأمرِ الله، وأمرِ رسولِهِ ، والتماسِ مظانِّ رضا الله، واجتِنَابِ مَظَانِّ سَخَطِه.
عباد الله: كُلُّ إنسانٍ على هذه الأَرْض، لَهُ أُمْنِيَةٌ لَا تُفارِقُ خَيَالَه، ولا تَنْفَكُّ عَنْ أَنْ تَكُونَ في مُقدِّمَةِ حَيَاتِه، وَهْيَ أَنْ يَعِيشَ حُرّاً كريماً عزيزاً، تُتَاحُ لَهُ مِسَاحَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْحُرِّيَّةِ والاِسْتِقْلَال؛ لِيُشَارِكَ ويُحَاوِرَ وَيَأْخُذَ وَيُعْطِي.
وإلَى هَذَا الْحَد، نجِدُ أنَّ شَرِيعَتَنَا الغَرَّاء، قَدْ كفَلَتْ لِكُلِّ مُسلمٍ هَذِهِ الأُمْنِية، وَرَعَتْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَجَعَلَتْهُ حُرّاً عَزِيزاً كَرِيماً، لَا سُلْطَانَ لِأَحدٍ عليه، غيرَ سُلْطانِ الشَّريعة؛ فَهْو في حريةٍ مُطْلَقَة، مَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِباتِه، تِجَاهَ رَبِّهِ وَدِينِهِ وإِخْوَانِه، وَمَا لَمْ يَنْتَهِكْ مِنَ الْموانعِ. فالنَّبِيُّ يَقُول: "لا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يَحْـقِرُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثًا، بِحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْـقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" رواهُ أحمد.
ومِمَّا يقُومُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي هذا العَصْر، من اعتِصَامَاتٍ وإغْلَاقٍ للطُّرُق، ومَا يُسمَّى بِالْعِصْيانِ المَدَنِي، فهْوَ عِصْيَانٌ للهِ تعالى، قَبْلَ أنْ يكونَ عِصْيَاناً مدنِيّاً، لأنَّهُ يَكُونُ بِذَلك، قدْ ظَلَمَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِين، وَآذَاهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَأخَلَّ بِالصَّالِحِ الْعَام، واللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ يَقُولُ في الحديثِ القُدُسِي الذي رَوَاهُ مُسلم: "يَا عِبَادِي إِنّي حَرّمْتُ الظّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلاَ تَظَالَمُوا"، فلَا يُمْكِنُ أَنْ يُصْغِيَ الإِنْسان، لِكُلِّ شَخْصٍ يَخْرُجُ فِي الإِعْلَام، ويُصَدِّقُ كلَّ ما فِي هذَا الْإِعْلَامِ المُتَهَالِك، مِنْ إِشَاعَاتٍ وخُرَافَات، ويصيرُ بذلكَ مِثْلَ الْحَمْقَى، الَّذِي لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْخَبِيثِ والطَّيِّب، وَلَا بيْنَ الْحَقِّ والْبَاطِل.
فَالشَّريعةُ عِبَادَ الله؛ هِيَ سِرُّ الْأَمَان، لِضَمَانِ الصَّالِحِ الْعَام، وَهْي مَبْنِيَّةٌ على الرحمةِ والْعَدْلِ والْخَيْر، الَّذِي يَأْمُرُ اللهُ بِهِ عِبَادَه، تَعُودُ غايتُهُ لِإِسْعَادِ النَّاس، فِي آجِلِهِمْ وعاجِلِهِمْ، وأنَّ الشَّرَّ الَّذِي نَهَاهُمْ عَنْه، لَيْسَ إِلَّا وِقَايَةً لَهُم، مِنْ أذىً قَريبٍ أَوْ بَعِيد.
ولذَا فَقَد سَمَا الإسلامُ بِالمسلِمِ رُوحاً وجسداً، عقْلاً وقلباً؛ فلم يضَعْ في عُنُقِهِ غُلاًّ، ولا في رِجْلِهِ قَيْداً، وفي الوقتِ نفسِه، لم يدَعْهُ كَالْكُرَة تتخطَّفُها مضارِبُ اللاعبين، فتهوِي به في كُلِّ اتجاه، حتى تُقنِعَه بأنَّ الإنسَان، إنَّمَا يعِيشُ لِنفسِهِ ومتاعِ الدُّنيا، فَإذَا كَانَ الأَحمَقُ منهُم يَعيشُ ليَأكل؛ فَإنَّ العَاقلَ منهُم بهذا التصوُّر الرَّخيص، إنَّمَا يَأكُلُ ليَعِيش.
وأمَّا المُؤْمنُ الصَّادقُ الْموصُولُ بربِّه؛ فإنَّهُ يَسْتَحْضِرُ قولُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ.
فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّة، على أنَّ الشَّريعةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ على الضَّرُورَاتِ الْخَمْس، وَهْيَ: الدِّينُ، والنَّفسُ، والْعَقلُ، والنَّسْلُ، والْمَال، وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِي.
أيها المُسْلمون: لَقَد تَوَاطَأَ النَّاسُ، عَلَى الْبَحْثِ عنِ الحُرِّية والكَرَامة، وَأَعْيَاهُمْ طِلابُها، غيرَ أنَّ كثيراً مِنْهُمْ، سارَ فِي غَيْرِ مَسَارِهَا، وَالْتَمَسُوهَا فِي غَيْرِ مَظَانِّهَا؛ فحسِبَها بعضُهم في اللَّهَث وراءَ الدُّنْيَا بِزِينَتِهَا وَزُخرُفِهَا، بَلْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكُمْ؛ لِيَصِيرَ مَفْهُومَ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَه: أنْ تقولَ ما تشاء، وتفعلَ ما تشاء، وَتَكتُبَ مَا تشاء، وَتَتَكَلَّمَ فيمَنْ تَشَاء، وتَرْفعَ سِلاحَكَ عَلَى منْ تشاء، وتقتُلَ من تَشَاء، دُونَ زِمَامٍ وَلَا خِطَام، حَتَّى وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالْعَقِيدَة، وحقِّ اللهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ .
ولكنَّ الْحُرِّيَّةَ الْحَقَّةَ عبادَ الله، دينٌ يتبَعُهُ عملٌ، ويَصْحَبُهُ حَمْلُ النَّفْسِ على الْمَكارِه، وجَبْلُها على تَحمُّلِ الْمَشَاق، وَتَوْطِينُهَا لمُلاقَاةِ الْبَلَاءِ بِالصَّبْر، وحِفظِ الحُدُود، والتَّسْلِيمِ لِلشَّريعةِ وَالتَّمَسُّكِ بها؛ فَالْحُرُّ مَنْ آثَرَ الْبَاقِي عَلَى الفَاني، والْحُرِّيةُ رِضاً بالله ربّاً، وَبِالإِسْلَامِ ديناً، وبمحمدٍ رَسُولاً، وقناعةٌ بِالْمَقْسُوم، وَثِقَةٌ بِالخَالق، واسْتِمْدَادُ الْعَوْنِ مِنْه، وَمَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَان، ذَاقَ طَعْمَ الْحُرِّيَّة.
فمنْ حقَّق العُبُوديةَ لله سُبْحَانَه، فَلَن يَكُونَ عبداً لِهَوَاه، وَلَا أَسيراً لأحدٍ مِنَ النَّاس؛ فَإِنَّ مِنْ أَسَاسَاتِ الْحُرِّيَّةِ عِبَادَ الله: أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَرْء، حقَّ اللهِ عَلَيْه، وَأَن يُؤدِّيَ حَقَّ الْعِبَاد، وِفْقَ مَا شَرَعَهُ اللهُ لَه، فَلَا حُرِّيَّةَ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْريِم؛ لأنّ اللهَ جلَّ وَعَلَا يَقُول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ، ويقول جل وعلا: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.
فَمَنْ أَرَادَ الحُريةَ الْحَقَّةَ عِبادَ الله، فلينظُرْ مَدَى تَوَافُقِهَا مع شِرعَةِ اللهِ وَصِبْغَتِه، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحسِنَ سِيَاجَ الْحُرِّيَّة؛ فَلْيَسْتَمِعْ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ : "إنَّ اللهَ تعالى فرضَ فرائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوها، وَحَدَّ حُدُوداً فَلَا تَعتدُوها، وحرَّمَ أشياءَ فلا تَنْتَهِكُوها، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْها" حديثٌ حسنٌ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُه. وحاصلُ الأمر عباد الله: أن الحريةَ ترابُطٌ وثيقٌ بين أفراد المجتمع وأُسَرِه، يشترِكون في الواجبات والحقوق، لا يعتدي بعضُهم على بعضٍ، ولا يظلمُ بعضُهم بعضاً، ولا يبغِي بعضُهم على بعض، أمامَهم فُسحةٌ واسعةٌ من المُباحات هي عفوٌ قد سكتَ عنها الشارِعُ الحكيم.
وليتَّقِ الجميعُ حدودَ الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ، ويقول - سبحانه -: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وقال جل وعلا: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ.
أقولُ مَا تَسْمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حوْلَ ولا قوةَ إلَّا بالله العَلي العَظيم .
الخطبـــــــــــــــــــــة الثانيــــــــــــــة
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وأزواجِه وأصحابِه وإخوانِه.
وبعد:
فاتقوا الله عباد الله، وليتَّقِ اللهَ أولئك الظالمون المُتهوِّرون، الذين يُصوِّبون فُوَّهات بنادقهم وأسلحتِهم، إلى صُدور إخوانهم وبني مجتمعهم؛ فيقتُلون ويُسرِفون في القتل، ويرتكِبون أبشعَ الجرائِم والمجازِر، فلا يرعَون حُرمةَ دمٍ ولا مالٍ ولا ولد، كل ذلك لأجلِ عَرَضٍ من الدنيا زائِل، قدَّموا مصالِحَهم على حُرمات العباد، حتى لقد صارَ إهراقُ الدمِ عندهم أهونَ من قتل البَعوضة. وتاللهِ وباللهِ؛ فإن هذا لهُو البَوارُ والخُسران، وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ. إن القاتل مسجونٌ ولو كان طليقًا، مهمومٌ ولو بدَتْ نواجِذُه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لن يَزالَ المؤمنُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا"؛ رواه البخاري.
هذا؛ وصلُّوا وَسَلِّمُوا أيُّهَا المُسلمون على خيرِ خلقِ الله، مُحمدٌ بنِ عبدِالله، فَقَدْ أمركمُ اللهُ بِذلكَ في قوْلِه: إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يَصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَــــأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً . اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهُم عن خلَفائه الراشدين، وعن الصحَابة والتابعين، ومن تَبعهم بإحسانٍ إلَى يَوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائرَ بلادِ المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أَئِمَّتَنَا ووُلاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان. رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي اءَلْاخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
سُبْحَانَ ربِّنا ربِّ العزَّةِ عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُلله ربِّ العالمين.