أنواع القلوب وحقيقة التقوى
من أسلوب ابن القيم بتصرف وإضافات
كل عضو يكون سليما إذا قام بوظيفته بلا إعاقة، وما يعيق الوظيفة هو المرض، فإن فقد العضو القيام بالوظيفة بالكلية فهو ميت كاليد الشلاء، فلكي نعرف القلب السليم والمريض والميت يجب أن نعرف وظيفة القلب.
وظيفة القلب
هي التفكر لمعرفة الحقيقة التي خلق لها، قال تعالى عن الكافرين "لهم قلوب لا يفقهون بها" فإذا فكر في نفسه وفيما حوله وتدبر آيات الله الكونية واستعان بآياته القرآنية التي أنزلها على خاتم رسله عرف الله بصفات كماله وجلاله.
ومن عرف الله عبده ولابد، فالقلوب مفطورة على محبة من يحسن إليها ويعفو ويصفح عنها رغم قدرته، مفطورة على محبة الكمال والجمال، والله هو الخالق البديع، ولا نهاية لكماله وجماله ولا بره وإحسانه فلا نهاية لمحبته.
والقلوب مفطورة على رجاء من يملك معاشها ومصالحها ودفع الضر عنها، قال تعالى "وما بكم من نعمة فمن الله"وقال تعالى "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير"الأنعام17.
والقلوب مفطورة على الخوف من القوي الجبار، فمن عرف قوة الله وجبروته وأن الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم يسبحون بحمده من خيفته، وعرف مكر الله بأعدائه وما أعده لهم في الآخرة من صنوف العذاب كالسموم والحميم وشجرة الزقوم في نار وقودها الناس والحجارة لابد أن يخاف الله ويخشى عذابه وانتقامه. واجتماع المحبة والخوف والرجاء في القلب أصل عبوديته.
كذلك التفكر يجعل العبد يعرف حقيقة نفسه وضعفها وجهلها، فكلما تواصل ذكر الله في الخلوة مع التفكر في النفس وأحوال الخلق كلما قويت معرفة كمال الرب وفضله وإحسانه ومعرفة نقص النفس وعيوبها. والأولى توجب التعظيم والمحبة والخوف والرجاء والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، والثانية توجب الذل والانكسار والتوبة والافتقار إلى ربه، فلا يرى حسناته ولا يرى لنفسه حالا ولا مقاما ولا وسيلة يمن ويفتخر ويستطيل بها على الخلق، ويرى أن ماله وصحته وأهله وأمنه واستقامته كلها منن من الله تعالى وحده فيدخل عليه دخول الفقير المحتاج على الغني الكريم. لذا فوظيفة القلب هي معرفة الله وعبادته، قال تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"الذاريات56 وعبادات الجوارح وانقيادها لأوامر معبودها تأتي تبعا لعبودية القلب، لذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". فالقلب إذا تعلق بشيء وأراده فإن الجوارح تتحرك لتحقيق مراده، لذا يئس الشيطان من المخلصين حيث خلصت قلوبهم لربهم فأرادوه وحده بأعمالهم "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" ص82/83.
القلب السليم
القلب السليم هو الذي أخبر الله أنه لن ينفعنا يوم القيامة غيره "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم"وهو القلب الذي يعرف الله ويتلذذ بذكره وقربه وعبادته ويكون ذلك أحب شيء إليه، فيستغني به عمن سواه ويستغني بلذة ذكره عن البحث والتلذذ بشهوات محرمة،بل إذا عرضت عليه القبائح نفر منها، ويكون تعظيم أمر الله ونهيه ناشئا عن محبته وتعظيمه سبحانه. وبسلامة القلب يكون حياؤه وعفته وشجاعته وصبره وتواضعه وسائر أخلاقه الفاضلة. والله تعالى لم يجعل العصمة لأحد، ولكن من علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه، فبه يطمئن وإليه يسكن، وبه يثق وعليه يتوكل، وإياه يرجو ومنه يخاف، فذكره قوت يومه، ومحبته والشوق إليه حياته ونعيمه. إذا غفل عنه أو قصر في قربه ومناجاته وتلاوة آياته شعر قلبه بوحشة وظلمة، فالانشغال عنه والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه والتلذذ بذكره دواؤه، قال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" الإسراء82.
أمراض القلب
هي ما يعوق القلب عن القيام بوظيفته،وسببهافتن الشبهات التي تحول دون كمال المعرفة وفتن الشهوات التي تحول دون كمال العبادة. وهذه الفتن للقلب مثل الميكروب للبدن، تدمر قيامه بوظائفه وإذا تحكمت فيه هلك.
مرض الشبهة
يستغل الشيطان جهل العباد فيلقي في قلوبهم الشبهات، وأكثرها تأتي من جهل الإنسان بسنن الله في خلقه.
أراد الله أن تقوم الدنيا على الأسباب لكي يجتهد الناس في الأخذ بها، فإذا أعطى الله الدنيا للمؤمن ومنعها عن الكافر فهذا بمثابة إكراه على الإيمان كحاكم يعطي فرص الحياة الكريمة لحزبه ويمنع غيره فهو يدعوهم إلى النفاق ليتقوى بهم في حكمه ولكن الله غني عن العالمين.
كما أراد الله سبحانه أن يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالأسباب، فتكون الأسباب فتنة يفتتن بها الجاهل، أما المؤمن فيدرك يد الله من وراء الأسباب فيصبر في الضراء ويشكر في النعماء. قال تعالى "فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون"الزمر49 وحين أعطى الله قارون الكنوز ظن لجهله أنها بفضل علمه وخبرته فقال "إنما أوتيته على علم عندي" القصص78.
والله تعالى يعطي العباد بقدر حتى لا يطغوا "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" كما يبتلي عباده بسبب ذنوبهم "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"ويبتليهم عسى أنيرجعوا إليه، قال تعالى "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون" السجدة21، وقد يبتليهليكفر عنه ذنوبا تكاد تهلكه فيكون البلاء خيرا له في آخرته "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" البقرة216 فعلى العبد أن يرضى بالله وتدبيره ويعلم أن الشر ليس إليه.
وأراد سبحانه أن يعطي الكافرين جزاء أعمالهم في الدنيا لهوان الدنيا على الله، قال تعالى "أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" الشعراء205/207، فما قيمة متاعهم في الدنيا سنين إذا حاق بهم عذاب عظيم "تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون".
كذلك أراد سبحانه أن يبلو العباد بعضهم ببعض فرغم قدرته على أعدائه إذا علوا وتجبروا فهو يريد أن يبلو المؤمنين كي يحاسبوا أنفسهم ويعالجوا أمراضهم وتقصيرهم ويخلصوا دينهم لله مع يقينهم في قدرته على عدوه وعدوهم، وأنه سبحانه لاشيء يعجزه "ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم"محمد4.
والذي يجهل هذه السنن ثم يرى المؤمنين يفتنون ويبتلون ويرى الكفار والفساق ينعمون، والدنيا عظيمة في نفسه والآخرة بعيدة عن قلبه تبدأالشبهات تتحكم في قلبه حتى يفقد اليقين في كمال الله وقدرته وحكمته وعدله، وقد يستمر على العبادة طالما يعطيه الله من فضله، ولكنه سيبتلى ولابد ولن يثبت على الإيمان والعبادة وقد يكون في مرض الموت "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين"الحج11. وهذا الشاك في الله وفي الدار الآخرة يكون مذبذبا بين الإيمان والكفر، إذا جلس مع المؤمنين أظهر الإيمان وإذا خلا إلى شياطينه استهزأ مع المستهزئين، وقد يلجأ إلى غير الله خوفا منهم ورجاء فيما عندهم "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"
مرض الشهوة
يستغل الشيطان غرائز الإنسان وحبه الفطري للشهوات فيزين له الشهوات المحرمة حتى يتعلق قلبه بها، وتستمتع شياطين الجن باتباع الناس لهم كما يستمتع الناس بطريق الشياطين. قال تعالى في سورة الأنعام128 "وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ" أي أغويتم كثيرا من الإنس "وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ" فاستمتع الجن بطاعة الإنس إياهم، واستمتع الإنس بطريق الجن وما فيه من شهوات "وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا" أي انتهت المهلة التي منحتها لنا "قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله". والشهوات ذكرها الله في قوله تعالى "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث" آل عمران14 قال ابن كثير (فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) ومريض الشهوة يفقد رغبته وتلذذه بالعبادة كما يفقد مريض البدن شهيته للغذاء، قال عثمان رضي الله عنه "لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله". فالقلب إذا تعلق بحب الشهوات المحرمة يضعف تعلقه بالله والتلذذ بعبادته وقربه ومحبته فتثقل عليه الصلاة ويخرج منها كما دخل فيها، ثم يستبدل بلذة العبادة لذة اللهو والشهوات المحرمة لأن القلب لابد له من لذة يبحث عنها. وبضعف القلب ومرضه يتأثر بأدنى الشهوات ويبحث عنها فتزداد قسوة قلبه ويتجرأ على المعاصي ويدخل في دائرة مغلقة، لذا حرم الله خضوع المرأة بالقول لحماية القلب المريض بالشهوة فقال تعالى "فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض" الأحزاب32 فأمرهن أن لا يلن في كلامهن فيطمع الذي في قلبه مرض الشهوة لأنه يتأثر بقليل الشهوات التي ينفر منها القلب السليم الذي يحب ربه ويتلذذ بقربه وذكره.
القلب الميت
أما القلب الميت فهو الذي لا يعرف الله ولا يعبده فهو يتمتع بظلمات الشبهات والشهوات، قال تعالى "أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" الأنعام122
قال ابن القيم إن القلب قد يمرض ويشتد مرضه وقد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة موته أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته، وما لجرح بميت إيلام. فالقلب حسب قيامه بوظيفته إما أن يكون سليما أو مريضا أو ميتا قاسيا، قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (وقد ذكر الله القلوب الثلاثة في قوله تعالى "ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم" الحج53/54 فجعل سبحانه القلوب في الآيتين ثلاثة: قلبين مفتونين وقلبا ناجيا، فالمفتونان القلب الذي فيه مرض والقلب القاسي، والناجي هو القلب المؤمن المخبت إلى ربه المطمئن إليه).
حقيقة التقوى
التقوى من الوقاية فهي للقلب كجهاز المناعة للبدن، فكلاهما يدرك ويواجه أسباب المرض. وهذه التقوى تنشأ من الإيمان بالله وخشيته والعلم بما أنزله من أحكام وحدود. وبالتقوى يدرك القلب إلقاءات الشيطان بسرعة، فإذا هم بالذنب أو أصابه تذكر وعد الله ووعيده، وأبصر غواية الشيطان، فيستغفر الله من قريب وبهذا يقي نفسه التعرض لسخط الله وعقابه، أما غير التقي فيترك الفتنة تدمر قلبه كما تدمر الجراثيم عضوا في الجسد لضعف جهاز المناعة "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذاهم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون" الأعراف201، فغير المتقين تمدهم الشياطين في الغواية لضعف مناعتهم، فلا يقصرون في سوء أعمالهم ولا الجن يقصرون في غوايتهم. قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض" رواه مسلم. وسبب ذلك أن الفتن التي تعرض على القلب تزيد القلب المريض مرضا، ولكن القلب السليم تزداد تقواه لأنه يقاوم الفتنة ويردها ويبغضها ويعلم أن الحق في خلافها فيخبت للحق ويزداد علما وخبرة بسبب ما ألقاه الشيطان، فتزداد تقواه ويزداد حذره وحرصه على قلبه، تماما كما تقوي الجراثيم جهاز المناعة وتكسبه قدرة وخبرة في سرعة إدراك الجراثيم وكيفية مقاومتها وتصميم الأجسام المضادة المناسبة لها.
وأحيانا يعجز جهاز المناعة عن التعرف على بعض الخلايا في جسده فيهاجمها ظنا منه أنها بروتينات غريبة وأعداء للجسد وتتفاوت هذه الأمراض من حالات حساسية بسيطة ومتوسطة إلى حالات خطرة يهاجم فيها جهاز المناعة أعضاء هامة في الجسد مثل الكبد والكلى (Autoimmune diseases) دون أن يدرك جهاز المناعة أنها أجزاء من جسده. كذلك القلب إذا أسس تقواه وكثرة عبادته على خلل علمي فعجز عن تمييز أولياء الله الذين هم من جسد أمته وظن أنهم أولياء الشيطان بسبب بعض أخطائهم فإنه يهاجم من لا يجوز مهاجمته. قال ابن تيمية في كتاب "الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان" (ولي الله ليس معصوما لا يخطئ؛ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله وتكون من الشيطان لبسها عليه؛ فإن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه قال تعالى "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم") فالذي يكون عنده إيمان وتقوى ولكنه لا يميز أولياء الله من أعدائه لقلة علمه بالتنزيل ينحرف انحرافا خطيرا وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج بقوله "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" لذا رأينا بعض المنتمين إلى الإسلام المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم يقتلون مسلمين ويهاجمون بلادا إسلامية فيروعون آمنين لا ذنب لهم، وقد يكون فيهم من يحب الله ورسوله ويريد إعلاء كلمة الله ولكنهم بسبب مرضهم وجهلهم لا يدركون أنهم جزء من جسد أمته