الْخُطْبَـــــةُ الأولَــــــــى
إِنَّ الْحَمْدَ لله، نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعُوذُ بالله مِنْ شُرورِ أنفسِنا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضْلِل فَلَا هَادِيَ لَه، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَه، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، صلى اللهُ عليْهِ وَعَلَى آله وَصَحْبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ الله.
أيها المسلمون: لقد دلَّ القرانُ الكريم على مكانةِ حُب الأوطان، وأنهُ أمرٌ مركُوزٌ في الفِطَر، جُبِلَتْ عليه النفوس، كما قال اللهُ تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنُ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوُ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾؛ فقرن سُبْحَانَه، الجلاءَ عَنِ الْوَطَنِ بِالْقَتْل، وقال الله تعالى: ﴿قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾؛ فجعلَ القِتَالَ ثأرًا لِلْجَلَاء.
ووطنُ المسلم: أرضُهُ التي بها وُلِد، وعليها تربَّى، وبِخَيْرَاتها تَنَعَّم، وعنها يُدافعُ بكلِّ ما أُوتيَ من قوة، فَإِذا كانتِ الإبلُ تَحِنُّ إلى أوطانِها، والطيرُ إلى أوْكَارِها، فكيفَ بنا نحنُ البشر.
وحبُّ الوطن؛ سببٌ لعِمارتِه، وسلامتِهِ مِنَ الْخراب؛ فقد رُوِيَ عنْ عُمَرِ بْنِ الخَطاب أنهُ قَال: "لَوْلَا حُبُّ الوطن؛ لَخَرِبَ بَلَدُ السُّوء".
أيها المؤمنون: إنَّ الوطنَ المسلمَ القائمُ على الشَّرْعِ، والْمُقِيمُ لِحُكْمِ الله جلَّ وَعَلَا، قَدِ اجْتَمَعَ لِأَهْلِهِ حُبَان: حُبٌّ فِطْرِيٌّ، وَهْوَ الْمُتقدِّمِ ذِكْرُه.
وَحُبٌّ شَرْعِيٌّ، وَهْوَ ذَلِكُمُ الْحُبُّ العَظيم، المبنيُّ على الصَّلَاحِ وَالْإِصْلاح.
فقد روى البخاريُّ في صحيحه، وأحمدُ في مُسنده، عنْ أَنَسٍ أنهُ قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ، أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا" أيْ من حُبِّ المدينة؛ لأنها وطنُهُ المبارك، ودارُهُ الطيبة. وقد أعلنَ رسولُ اللهِ عَنْ حُبِّه لوطَنِه مكّة، وهْو يُغادِرها مُهاجرًا إلى المدينةِ، فقال رسولُ اللهِ وهو واقفٌ بالحَزْوَرَة: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" رواه الترمذي وابنُ ماجة وأحمد.
وأمَر أُمَّتَهُ سُرعةَ الرُّجُوعِ إلى أوطانِهِم، عندَ انْقضاءِ أسفارِهِمْ وحَاجَاتِهِمْ، سواءً منها الدِّينيةِ أوِ الدُّنْيَوِيَّة؛ فقدْ رَوَى الشَّيْخَان؛ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ". بل إنهُ عليه الصلاةُ والسلام؛ دعا إلى الرُّجُوعِ إلى الوطن، ولو كان السَّفرُ إلى مَكةَ بيتِ اللهِ الحرام.
فقد روى الحاكمُ؛ عنْ أُمِّ المؤمنينَ عَائِشَةُ ، أَنَّ النبيَّ قَالَ: "إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ؛ فَلْيُعَجِّلِ الرِّحْلَةَ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِهِ"؛ قال العلماءُ: المرادُ بأهله؛ أيْ وطنَهُ وإنْ لمْ يكنْ لهُ فيهَا ولدٌ أوْ أهل.
أيها المسلمون: حُبُّ الأوطانِ الصادقِ لا يكونُ إلا بالسعيِ فِيمَا يُصلِحُها، ولا صلاحَ لها إلا فِي دِينِ الله تبارك وتعالى، ولا قَوامَ لها إلا بِشَرْعِه، وكلُّ ما عارض الشريعة؛ فليس بإصلاح، بل هُو مِنَ الإفساد، وليس مِنْ حُبِّ الوطنِ في شيء.
فصلاحُ الوطنِ؛ يكونُ بصلاحِ العقيدة واستِقامتِهَا، كما قال اللهُ تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾. ويكونُ بتحكيمِ الشريعةِ على أرضه، وبينَ أهلِه، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾.
ويكونُ بإعْلاءِ شأنِ الدّعوةِ إلى اللهِ فيه، وإقامةُ شعيرةِ الأمرِ بالمعروف، والنهيِ عن المنكر، كما قال الله سبحانه: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾.
ويكونُ بمُجانبةِ الذنوبِ والمعاصي، وإقصاءِ الفسادِ والاِنحلال، فإنهُ دَمارٌ للديار وهلاكٌ لأهلها، كما قال الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. ويكونُ بالبُعْدِ عَنِ البَطَرِ وكُفْرَانِ النِّعَم، كما قال الله : ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾. ويكونُ بِلُزُومِ الجماعةِ والسمعِ والطاعة؛ إِذْ إِنَّ مَصَالِحَ الأُمَّةِ لَا تَتِمُّ إِلا بِجماعة، والجماعةُ لا تتمُّ إلا بِإِمَارة، والإمارةُ لا تقُومُ إلا على وطن.
فالْمُسْلِمُ الْحَقِيقِيُّ يَكُونُ وَفِيًّا لوَطَنِه، مُسْتَعِدًّا لِحِمايتِهِ والدِّفَاعِ عنه، وقطعِ الطريقِ أمامَ أعدائه، وَمَنْ يُرِيدُونَ بِهِ السُّوء، وَمنْ يَنْفُثُونَ سُمُومَهُمْ بَغْيًا مِنْهُمْ وعُدْوَانًا، لأجل تدميره، ونشر الأفكار المتطرفة، كمذهبِ الخوارج والإخوانِ الْمُجرمين، فهؤلاءِ لَا يُريدونَ لِبُلدانِ المسلمينَ ولِبِلَادِنَا خَيْرًا، فَهُمْ يَسْعَوْنَ لِنَشْرِ الإِرْهَابِ بِحَذَافِيرِه، وَتَقْويضِ جُهُودِ الجهاتِ الأمنيةِ فِي بسطِ سيطرتِهَا عَلَى الوطن، بَلْ وَيَعملونَ على تَقْوِيضِ أيِّ جهودٍ للمصالحة بين أبناء الوطن، ويسعوْنَ لبناءِ دولةِ الميليشيات، وتَعْطِيلِ كُلُّ مَا منْ شأنه، تسهيلُ الحياةِ المعيشيةِ للمواطنين، فهؤلاءِ وإن كانوا يعيشون بيننا، فَهُمْ لَا يُحبُّونَ وطنهُمْ، بل يسْعَونَ جاهدينَ لِلْقَضَاءِ عَلَى مُقَوِّمَاتِه.
ولذا فإنَّ المُواطَـنَةَ الصَّالحةَ ليستْ كلماتٍ تُردَّد، ولا شِعاراتٍ تُرفَع، وإنمَا هي إخلاصٌ للوطن، والعمل على بنائهِ والنهوضِ به.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُون، وَأَستَغْفرُ اللهَ لي وَلَكُم وَلسَائر المُسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْب، فاستغفرُوه إنهُ هُو الغفُور الرَّحيم.
الخطبـــــــــــــــــــــة الثانيــــــــــــــة
الْحَمْدُ لله حَمْداً كَثِيراً كَمَا يُحبُّ ربُّنا ويرْضَى، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شريكَ له، عالِمُ السِّرِّ وأخْفَى، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُهُ ورسُولُه، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحْبِه، وسلَّمَ تسْليماً كثيراً. وَبَعْد: فاتقوا اللهَ عبادَ الله.
أيها المؤمنون: إنَّ العملياتِ التي تقومُ بها القواتُ المسلحة في المنطقة الغربية، ما هو إلا دليلٌ على عزيمتهم وحُبِّهِمْ لِوَطَنِهِمْ، وَالْعَمَلِ عَلَى اسْتِرْدَادِ تِلْكَ الْمَنْطِقَةِ مِنَ الْجماعاتِ المتطرفة، التي عاثتْ في هذه البلادِ فسادًا، ولذا فإِنَّ الواجبَ علينا إخوةَ الإسلام، ونحنُ نرى العبثَ بمقدراتِ البلاد، والمؤامراتِ الخارجية التي تُحاكُ ضدَّنَا؛ أنْ نَكُونَ صَفًّا وَاحِدًا مع قواتِنا المسلحة، ضدَّ الجماعاتِ المُتطرفة المختلفة، التي تحاولُ العبثَ بأمنِ البلاد، فدينُنَا يُوجِبُ علينَا الاِجتماعَ وَالاِئْتِلَاف، وَيُحَرِّمُ عَلينَا الفُرْقَةَ وَالاِخْتِلَاف، كما قال اللهُ تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ، وقال تعالى: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسُولِكَ محمد، وارضَ اللهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهُمَّ كُنْ لِقُوَّاتِنَا الْمُسلحة عَوْنًا ونَصِيرًا وَمُؤَيِّدًا وَظَهِيرًا، اللهُمَّ ثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ، وَسَدِّدْ رَمْيَهُمْ، اللهم تقبل شهداءهم، واشفِ جرحاهم، اللهُمَّ عليك بالخوارجِ المارقين، اللهم عليك بالإخوانِ المجرمين، اللهمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عليهم، اللهُمَّ شَتِّتْ شَمْلَهُمْ وَفَرِّقْ جَمْعَهُمْ، اللهمَّ مَنْ أَرَادَ بِلادَنَا بِسُوء؛ فَأَشْغِلْهُ بِنَفْسِه، وَاجْعَلْ تَدْمِيرَهُ فِي تَدْبِيرِه، وَاجْعَلِ الدَّائِرَةَ عَلَيْه، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيز.
وآخرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالمين.