تعريف المحاسبة
إن شأن المحاسبة للنفس كبير عند الصالحين، ومقامه عظيم في نفوسهم، ولأجل هذا كانوا يعملون على الإتيان به في واقع عملهم، وفي جريان حياتهم، فكانت قالاتهم المحكية عنهم، وأفعالهم المنقولة في تراجمهم تفيدنا إفادات لمعنى محاسبة النفس، والمقصد منها، والمعنى الجامع من تلك المأثورات هو: الوقوف على النفس محاسبةً لها في أداء المأمور به، وفي ترك المنهي عنه، وتكميل النقص الطارئ.
قال الحارث المحاسبي: «الرعاية لحقوق الله» (ص45) عن المحاسبة:«النظر والتثبت بالتمييز لما كره الله عزَّ وجلَّ مما أحب».
وقد بيَّن معناها الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: «إحياء علوم الدين» (5/138) حيث قال: اعلم أن العبد كما يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية في الحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها. اهـ.
ثم قال رحمه الله: «إحياء علوم الدين» (5/139): رأس مال العبد في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي). اهـ.
فمن هذه المنقولات يبين لنا المعنى المراد من محاسبة النفس، والقيام عليها بالمتابعة والنظر، إذ بها يكون الظفر بالسلامة من محاسبة الآخرة.
قال عمر بن الخطاب (: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا».
فضل محاسبة النفس
النصوص الواردة في شأن محاسبة النفس متنوعة، وليست على نوع واحد، إذ هي مرةً: بملازمة حالها، أو بيان ثمرتها، أو ذكر صفة أهلها، ونحو ذلك، وعليه: فأسوق هنا جملة مباركة من النصوص الواردة في ذلك:
1- قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(، والتقوى: اتقاءٌ مِنْ عذاب الله؛ بفعل الطاعات وترك المنهيات.
2- قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( [الحشر: 18].
3- قال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ( [ق: 16].
فهذه الآيات توحي بحقيقة المحاسبة إيحاءً ظاهرًا لمن أمعن التدبر، فإن محاسبة العبد نفسه تورثه التقوى؛ وهي: اتقاءُ عذاب الله بطاعته وترك معصيته، وتجعله ينظر في أي عملٍ يعمله قبل العمل به؛ هل هو مما يرضي الله أو لا؟ ونحو ذلك، فإذا فكر في مستقبل أعماله ففي ماضيها أجدرُ وأحق أن يفكر محاسبًا، وأيضًا إذا علم أن الله قريبٌ منه، مُطَّلعٌ عليه، يعلم خافيَ نفسه وعلانيتها وقف عند أعماله وأقواله، فهذه هي حقيقة المحاسبة في تلك الآيات المباركات، وفي غيرها من الآي.
4- قال سيدنا (: «الكيِّس مَنْ دان نفسه وعمل لما بعد الموت»().
قال الحارث المحاسبي رحمه الله: «وقوله: «دَانَ نفسه» يعني: حاسب نفسه». والأخبار الواردة بمعنى المحاسبة كثيرة، وآثار الصالحين وأخبارُ أحوالهم كثيرة وفيرة – أيضًا -.
ذكر جملةً من أخبار القوم الحارث المحاسبي رحمه الله في: «الرعاية لحقوق الله»، ومن جملة ما ذكر:
أن أبا بكر ( قال لعائشة رضي الله عنها عند الموت: ما أحد من الناس أحب إليَّ من عمر، ثم قال لها: كيف قلتُ؟، قالت: قلت: ما أحد من الناس أحب إلى من عمر، فقال: لا، ما أحد من الناس أعزَّ عليَّ من عمر.
فهذه المحاسبة من أبي بكر ( من دقائق الأحوال، فهي في لفظةٍ من الألفاظ، قد تكون خرجت لا عن قصدٍ، فكيف بمحاسبته لأعماله، وما يتعلق بها من إتمام واستيفاءٍ؟
وعن عمر بن الخطاب ( اشتهرت كلمته التي غَدَتْ مثلاً بين الناس، وهي: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر».
وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة.
ولما شغلت الطير أبا طلحة في صلاته جعل حائطه – بستانه – صدقه لله عزَّ وجلَّ، ندمًا على فعله ورجاء العوض لما فاته.
والمتتبع لما نقل عنهم من أخبار وحكايات يجد ذلك بينًا في حياتهم ( وسلك طريقهم في ذلك جماعة من ذوي السلوك والنسك، سلك الله بنا معهم.أقسام المحاسبة
محاسبة المرء لنفسه وظيفة كبرى لاستمرارية سلوكه في تهذيب نفسه، وإصلاح خللها، ولذا كان العلماء من عنايتهم بها يقسمون محاسبة النفس إلى قسمين:
القسم الأول: محاسبة عامة، فيحاسبُ نفسه على ما بدر منها من تقصير بواجب، أو ارتكاب لمنهي عنه، فيعاتب نفسه على ذلك معاتبةً تثمر له زيادةُ في الخير، وتقليلاً من الشر، وملازمةً للهدى، ومفارقة للهوى.
وفي هذا إشارات للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله في «إحياء علوم الدين» (5/139) فلتراجع.
القسم الثاني: محاسبة خاصة، وهي متعلقة بجوارحه، فيقف عند كل جارحةٍ مِنْ جوارحه فيحاسبها على ما قدَّمته وما أسلفته.
والمقصود: بالجوارحُ والحواس، القلب، واللسان، والسمع، والبصر، والقدم، والفرج.
فمحاسبة (القلب): معاتبته على ما كان منه من عملٍ قَصَدَ نيته لغير الله تعالى، أو تلبَّس قلبه بآثام الباطن، كـ: العجب، والحقد، والحسد، والغش، ونحوها.
أو كان ذنبه ترك عملٍ من أعماله المطلوبة، كالتوبة إلى الله، والرِّضا عنه، ومراقبته، وخشيته، وما إليها.
ومحاسبة (اللسان): فيما جرى عليه من كلام بذيء، وغيبةٍ، وفاحش لفظٍ، وسخرية وانتقاصٍ، وغير ذلك.
أو ما جرى من تقصيره في: ذكر الله تعالى، وأمرٍ ونهي، ونصح...
ومحاسبة (السمع): (المراجعة مع النفس فيما سمعه من غيبةٍ لم ينكرها، ولفظٍ منكرٍ لم يأنف منه، وغير ذلك.
ومراجعتها فيما قصرت فيه من سماع للعلم والذكر بعمومه.
وقلْ مثل ذلك في باقي الجوارح().
فهذه المحاسبة للنفس تفيد المرء دقةً في تعامله مع نفسه وإصلاحها، في كلتا حالَتَي: (التحلية) و (التخلية).
وما أندر مَنْ كان يضع ذلك في زمان السلف السابقين فكيف اليوم!! فقد مرَّ معنا ما كان من أبي بكر ( من محاسبة لنفسه في لفظة قالها، وما كان منه من إخراجه ما كان قد أكله من كسب (المتكهن).
يتبع...