جاءني وهو يشتكي ـ هكذا ظننت بادئ الأمر ـ من سوء الصحبة، وأنهم لا يعينونه وهو يحاول أن يخطو أولى خطواته إلى عالم الصلاة والطاعة، وجعل يحكي عن مشهد قد كنت أظن أني سمعت من القصص ما لا يدعوني للعجب بعد
ذلك ولكن من يعش يرى العجب كل العجب ... جعل يحكي عن مشهد كيف أنه انطلق من منزله للصلاة في المسجد, وقد أعجبه وهو يتوضأ أن يترك الماء يقطر من أعضائه، وبينما هو يسير في الشارع إذ لمح جمعًا من أصحابه يتهامسون خلفه, ثم يتبعه أحدهم فلم يأبه بهم انطلق صاحبنا إلى داخل المسجد وبدأ يتعرف على أركانه وأجزائه بنظرات العطش لمكان طالما اشتاق إليه ولم يره إلا من الخارج لكنه يشعر معه بألفة شديد، وتقام الصلاة ويصطف، إنه لم يكن يومًا من الأيام يسمح لأحد أن يقاربه بجسد هكذا إلا لمعصية, لكنه اليوم يفعلها لطاعة, وتبدأ مجموعة من الحركات، ومع كل حركة تنفعل نفسه هبوطًا وصعودًا تذللاً للعظيم وانكسارًا للجبار، شعور لم يعهده من قبل.
وبعد ختام الصلاة يرى صاحبه المراقب له في الصفوف الخلفية وهو يرقبه من جانب يظنه خفيًا، فيذهب إليه ويجلس بجواره ويصمت، فيبادر صاحبه المراقب له بسؤال عجيب: هل الشيطان هنا؟!
أجابه صاحبنا: نحن في مسجد بالتأكيد لا يوجد شيطان هنا.
فيرد: فلماذا تأتي هنا إذًا؟ أنت شيطان.
فيرد صاحبنا: لا تقلق فحتى الشياطين تهتدي!!
أخي الشاب:
حفظك الله ورعاك وهداك وثبتك وأعانك هل أنت شيطان؟
لا تقلق .. فحتى الشياطين .. تهتدي، وأنت بالتأكيد لست كذلك ـ بحمد الله تعالى ـ لقد كنت أظن صاحبنا هذا يشتكي ـ كما قلت في بادئ الأمر ـ ولكنه ما إن بدأ يسرد أحداث هذا الموقف الفريد حتى تأكدت أني أمام شخصية قوية ثابتة بتثبيت الله تعالى لها، وتلمحت ذلك في مواقف منها:
ـ خروجه إلى الطريق وأعضاؤه تقطر بماء وضوئه، فكأنه يريد بذلك إخبار الجميع أنه قد أصبح سعيدًا بانضمامه إلى فئة المؤمنين وتحيزه إلى مجتمعهم, فهو فرح بطهارته منتشٍ بإيمان يلامس شغاف قلبه، يرفع قدميه عن الأرض ويملأ جوانحه برفعة وارتقاء وعلو لم يشهده من قبل في مسكر أو مفتر.
ثم لمحتها مرة أخرى: في أنه لم يأبه لهؤلاء الذين خلفه يتهامسون ويتعجبون وقد يضحكون ويهزأون فقد عرف الصواب وتيقن الحق فهو ماض غير آبه بم لم يرغب في اللحاق به.
مـاضٍ وأعــرف مــا دربـــي ومـــا هــدفـي
غير آبه بالمتهامسين حوله والمشيرين إليه.
ولمحتها ثالثة: في وصفه العجيب لتأمله في بيت الله، ووصفه لنفسه بالعطش الشديد الذي يجعل من وجد الماء يسكب أغلبه وهو يحاول الإسراع بشربة لشدة عطشه، عطش إلى مكان لم يره من قبل لكنه رأى فيه طوق نجاته وملاذًا آمنًا من كل خوف سبق وشعر به في الدنيا.
وأخرى في ذهابه للجلوس بجوار من جاء يرقب فعله بكل اطمئنان وثقة. لكن أعجب ما دعاني إلى الضحك هو هذا الحوار الفريد من نوعه حول اهتداء الشياطين، ذكرني بذلك الحوار الذي دار في أول الإسلام حول إسلام عمر بن الخطاب وصدر تعليق من أحد الصحابة بقوله: [ لو أسلم حمار الخطاب ما أسلم الخطاب ]
لا تقلق فحتى الشياطين تهتدي:
إن الرد يوحي لنا أننا أمام نفسية واضحة الهدف صادقة العزم شديدة التصميم، هذا مع أن صاحبنا لا يدري حقيقة ما سيحدث له بعد ذلك لكنه حسن الظن بالله ' نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا '.
إن من أراد الله فلن يخذله الله ولن يرده الله {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد:17].
وتلك هي النفسية في أول الطريق وهي الحقيقة أن تستمر معك حتى النهاية.
عزيزي الشاب:
كان عمر رضي الله عنه يرفع يديه يدعو ويقول: 'اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة' وهو يضع بهذه الكلمات يده على موضع الداء ومكمن الدواء في الوقت ذاته.
يا من وقفت أمام شهوتك عاجزًا ولم تقو قدماك على حملك للقيام بعد الوقوع وتراءى أمام عينيك عدد مرات السقوط وكثرتها فشق عليك القيام، وصعب الاستمرار، يا هذا انتبه فما ذاك إلا وهم، وهم: إني لا أستطيع الاستمرار، لا أملك قدرة المقاومة، وهم: إنى ضعيف، وهم الاستسلام.
يا من سافرت بك أحلامك وأمانيك وطموحاتك بعيدا في الآفاق ثم بعد ذلك وجدت من يجرك إلى الأرض مانعا إياك من الحلم ومجرد التفكير في إمكانية تحقيقه أفق فما هذا الذي يجرك إلا وهم.
وكأني ثانية بمشهد ذاك الصديق يخاطب الفاروق، الأسيف يخاطب من يخاف الناس لقاءه، يرتفع صوته ويحمر وجهه ينادي: 'يا عمر أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام' كلا بل هو مجرد وهم سرعان ما زال عن ذهن الفاروق ـ رضي الله عنه ـ فيا ترى متـــى يزول عن ذهنك، أخي الحبيب هذا الأمر لوهم الشهوة تملك حياتك وتقودها هي وليست كذلك.
إنها معركة خصمك فيها يصف الله تعالى كيده ومكره بالضعف: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76].
إن أهم قاعدة لا بد من ترسيخها ونحن نتعامل في مأساة الشهوة المعاصرة أن الأمر في حقيقته يمكن مداواته بإرادة صادقة وعزم أكيد، ومهما سقط المرء في وحل المعصية مرات ومرات فإن حسن الثقة بالله واليقين به يدفعها جلد الثقة [أي عزمه وتصميمه وإرادته] لا بد لها من النصر في النهاية.