الخطبـــــــــــــــــــــة الأولـــــــــــــــــى
إِنَّ الْحَمْدَ لله، نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعُوذُ بالله مِنْ شُرورِ أنفسِنا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضْلِل فَلَا هَادِيَ لَه، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَه، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، صلى اللهُ عليْهِ وَعَلَى آله وَصَحْبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ الله؛ فتقواهُ مَجْمَعُ الخيرات، وسببُ نيلِ البركات، ووسيلةٌ لتفريجِ الهُمُومِ والكُرُبات.
أيها المؤمنون: إِنَّكُمْ في هذه الدنيا تُمْتَحَنُون، وفي الدار الآخرة تُجَازَوْنَ وَتُحَاسَبُون؛ فَمَنْ عَمِل صالحًا فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَنْ عَمِلَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَه. قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.
إِنَّ أَكْثَرَ فِتْنَةَ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي الْمَال، كَمَا روى التِّرْمِذِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَال".
فما أكثرَ مَنْ يَحْمِلُهُ حُبُّ الْمَالِ عَلَى أَخْذِهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُحَرَّمَة؛ كَالرِّبَا وَالرَّشْوَةِ وَالاِخْتِلَاس، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ فِي كَسْبِ الْأَمْوَال.
إنَّ الفسادَ مِنْ أعظمِ الأمراضِ الَّتِي تَفْتِكُ بِالْمُجتمعاتِ، فهوَ يُعَطِّلُ حَرَكةَ النَّمَاءِ وَالاِزْدِهَار، وفيه تَضْيِيعُ الأمانة، والتَّفريطُ فِي الْمَسْئُولِيَّة، وَمَا يُسَمَّى بِالْفَسَاد الإداري"، هذا الوباءُ الَّذِي يُعَدُّ أصلُ المُشْكلة، والبيئةُ الخصبةُ لِنُشُوءِ أَمْرَاضٍ أُخرى، فَكَمْ تَعَطَّلَ مِنْ مَشْرُوعٍ كَانَتِ الْأُمَّةُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَيْه بِسَبَبِ الْفَسَادِ الْإِدَارِي، وَكَمْ تَأَخَّرَ تَنْفِيذُ مَشَارِيعَ في البلاد، رُصِدَتْ لَهَا الْمِيزَانِيَّاتُ الْخَيَالِيَّة؛ بِسَبَبِ الْفَسَادِ الْإِدَارِي؛ بَلْ وَإِنْ نُفِّذَتْ هَذِهِ الْمَشَارِيعُ؛ نُفِّذَتْ بِشَكْلٍ سَيِّء، وَمُسْتَوًى رَدِيء، لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ ضَخَامَةِ الْمَبَالِغِ وَالميزانياتِ الَّتِي صُرِفَتْ عَلَيْهَا.
فَلَوْ ذَهَبْنَا نَتَحدَّثُ عَنِ الفَسَادِ الإداري، وَأشكالِهِ وصُوَرِهِ وَمَظَاهِرِهِ فِي هذا البلد؛ لَطَالَ الْحَدِيث، لَكِنَّهُ صَارَ أَمْرًا مُشَاهَدًا، يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَد، وَيَتَحَدَّثُ بِهِ الصَّغِيرُ قَبْلَ الْكَبِير.
إخوةَ الإسلام: إنَّ مِنْ أَخْطَرِ مَا يُهدِّدُ أَمْنَ هذه البلاد؛ انْتِشَارَ الفسادِ فِي جَمِيعِ قِطَاعَاتِ الدَّوْلَة، وانْتِشَارَ الرَّشْوَةِ فِيهَا. فالرَّشْوةُ إنْ كانتْ فِي القضاء؛ ضَاعَتِ الحقوقُ وفَشَتِ المظالم. وإنْ كانتْ في الطِّب؛ تَفَشَّتِ الْأَمراض، وهلكتِ الأجساد، وذهبتِ الأرواح. وإنْ كانتْ في التعليم؛ نَشَأَتِ الأجيالُ الجاهلة، فِي الوقتِ الذِي تُحْمَلُ فيه أَرْقَى الشَّهَادَات، وَبِأَعْلَى الدَّرَجَات.
وإنْ كانتْ في البناءِ والمشاريع؛ ذَهَبَتِ الْمَلَايِينُ فِي مَشَارِيعَ وَهْمِيَّة، أَوْ مَشَارِيعَ فَاشِلَة، تَسْقُطُ عِنْدَ أَوَّلِ امْتِحَان. وَإِنْ كَانَتْ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوش؛ دَقَّتْ سَاعَةُ الْحَرْب، وَالْمَخَازِنُ خَاوِيَة، وَالْجُيُوشُ غَيْرُ مُدَرَّبَة، وَكَانَتِ الْبِلَادُ لُقْمَةً سَائِغَةً لِلْعَدُو. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَلَدِيَّاتِ وَالأمانَاتِ وَقِطَاعِ الخدماتِ الْعَامَّة؛ سَاءَتِ تِلْكَ الْخَدَمَات، والمتمثلةِ في ارتفاعِ الأسعار، وانهيارِ الْقِطَاعِ الصِّحِّي، وانتشارِ الأطعمةِ المنتهيةِ الصَّلاحية، وازديادِ نفقاتِ الناسِ على مُخْتَلَفِ السِّلَع، وارتفاعِ مُستَوَى التَّضَجُّرِ والضِّيقِ في قُلُوبِ النَّاس، مما يُؤَثِّرُ سَلْبًا عَلَى الْعلاقةِ بَيْنَ الْمُوَاطِنِ وَالدَّوْلَة، وَعِنْدَهَا تُتَاحُ الْفُرْصَةُ لِهَؤُلَاءِ الْفَاسِدِين؛ لِتَأْلِيبِ النَّاسِ وَتَهْيِيجِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَحَيَّنُونَ الفُرَصِ لِإِشْعَالِ نَارِ الْفِتَن.
ولِخَطَرِ الرَّشْوَة؛ نهى اللهُ تعالى عنها في مُحْكَمِ كتابه، فقال تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَعَدَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِر، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم :الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فجلسَ فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ"، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ" متفق عليه. أَيْ؛ شَفَقَةً عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ مَا كَرَّرَها.
عباد الله: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَتَعَفَّفُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْأَفْرَاد؛ لَكِنَّهُ لَا يَتَحَرَّجُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الدَّوْلَة، حَتَّى شَاعَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ؛ أَنَّ مالَ الدَّوْلَةِ حَلَال، وَهَذَا مِنَ الجَهْلِ بِالدِّين، وَمِنْ جفاءِ القلبِ وقَسْوَتِه، بَلِ المالُ الحرامُ يُعتبرُ حَرَامًا؛ سواءٌ كَانَ لِلْأَفْرَادِ أَوْ لِلدَّوْلَة، بَلْ لَوْ كَانَ المالُ مالُ كافرٍ؛ مَا جَازَ أَخْذُ دِرْهَمٍ مِنْه، بِدُونِ وَجْهِ حَق.
إِنَّ عِنَايَةَ الإسلامِ مُنْصَبَّةٌ عَلَى عَدَمِ حُصُولِ الفساد، ووُصُولِ الْفَاسِدِينَ لِإِدَارَةِ الْبِلَاد، بلْ حتى لإِدارةِ القطاعاتِ الخدمية؛ كالمستشفياتِ والمصانعِ والجامعاتِ والمدارسِ وغيرها، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ ضِعَافِ النُّفُوس؛ مِنَ المُوظَّفين والمسؤُولين لَيْسُوا عَلَى مُسْتَوَى الْمَسْؤُولية المَرْجُوَّة، وَلَا الكفاءةِ المطلوبة، فيُفْسِدُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُون، وَيُحَقِّقُونَ مَكاسبَ شَخصية، ومغانمَ ذاتية، على حسابِ مصلحةِ المجتمعِ كَكُل، فَلَا بَأْسَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَمْلَؤُوا بُطُونَهُمْ وخَزَائِنَهُمْ مِنْ أمْوالِ الرِّشا والعُمُولَاتِ والاِخْتِلَاسات، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَبِيتُ فيه بُسَطَاءٌ مِنَ الناس أمامَ المصارف، ولا حرج لديهِمْ أَيْضًا فِي أنْ يبيتَ مِسكينٌ بِلَا مَأْوَى وبلا طعام، أَوْ تَقَعَ فِي البلادِ كارثةٌ يمُوتُ خِلَالَهَا المِئَاتُ، لَا يَهُمُّهُمْ ذَلِكَ مَا دَامُوا يَعيشُونَ فِي أجملِ القُصُور، وَيَأْكُلُونَ أَطْيَبَ الطَّعَام، ويتمتَّعُونَ بِمَلَذَّاتِ الدُّنْيَا، مِنْ حَلَالٍ كَانَتْ أَمْ مِنْ حَرَام.
أقُولُ مَا تَسمَعون، وَأَستَغفرُ اللهَ لي وَلَكم وَلسَائر المسلمينَ من كل ذَنب، فَاستَغفروه إنَّه هوَ الغَفور الرَّحيم، وَلَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إلَّا بالله العَلِي العَظِيم.
الخطبـــــــــــــــــــــة الثانيــــــــــــــة
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه على توفِيقِه وامتنانِه، وبعد:
فإنَّ أعظمَ مَا يُعينُ عَلى تحقيقِ حفظِ الأمانة؛ تعميقُ معناها، ومنزلَتِهَا وَأَهَمِّيَّتِهَا فِي النُّفُوس، هذه الأمانةُ اعْتَنَتْ بِها الشَّريعةُ عنايةً فائقة، فقال تعالى مُبَيِّنًا فَرَضِيَّةِ أداءِ الأمانةِ، والتَّحْذِيرِ مِنَ الخيانة فيهَا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَكُلُّ مسؤولٍ في هذا البلد؛ صغيرًا كانَ أمْ كبيرًا؛ فَهْوَ مَسْؤُولٌ أمام الله تعالى، ثُمَّ إنَّ العبثَ بِالمالِ العام، والتَّحَايُلَ عَلَى سرقَتِهِ وَتَبْدِيدِه، واستغلالِ المناصبِ لِلسَّطْوِ عَلَيْه، حَتَّى صَارَ الثَّرَاءُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ مَظْهَرًا واضحًا فِي الْمُجْتَمَع، ناهيكُمْ عنِ الْمَحْسُوبِيَّةِ فِي الوظائفِ والأعمال، وتقريبُ الْقَرِيب، بِغَضِّ النظَرِ عَنْ كَفَاءَتِهِ وَأَمانتِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِلْعَمَل. وجميعُ ذلكَ وَغيْرُهُ أمراضٌ خطيرة، ومشكلاتٌ كبيرة، تَضِيعُ بِسَبَبِهَا الْحُقوق، وتنتشرُ الرَّشَاوَى والْمَحْسُوبِيَّات.
إن التأخُّرَ والتخَلُّفَ في هذا البلد، والذي يبدُو أنه سيطُول مُدَّةً طويلة، في ظل تنامي ظاهرةِ الفساد، والذي سيجعلُنا أمةً متخلفةً في كل المجالات، بدليلِ أَنَّ بَعْضَ الدُّولِ التي كانتْ مُتأخرةً عنا؛ نهضوا ببلادِهِمْ، بسببِ حُسْنِ الإدارة، حتى في أصغرِ القطاعات.
أيها المؤمنون: إنَّ تضييعَ الأمانةِ علامةٌ على اقترابِ الساعة؛ لأنها لا تقُومُ إلا على شِرَارِ الناس، فَعَنْ أَبِي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ" رواهُ البخاري.
إنَّ المسلمينَ لو أخذُوا بهدايةِ كتابِ ربهم، وسنةِ نبِيِّهِمْ، وعظَّمُوا الأمانةَ فِي نُفُوسِهِم، لصَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَزَالَتْ كثيرٌ مِنَ المشكلات التي يُعَانِيهَا المجتمع. يقولُ اللهُ تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُر عبادَك المُوَحِّدين، واجعلْ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين.