قصة بلا معنى .. بقلم/ علي عمرالتكبالي
هذه قصة عن زميلين لا بد أن أكثركم خبرها.. فقط إمسح إسم "عليوة وجمولة" وضع إسمك واسم صديقك فالتاريخ لا يتغير، المكان فقط هو الذي يمحوه الزمن.
"جمولة، وعليوة" صديقان قديمان تعرّفا على بعضهما منذ أن كانا في حجم البذرة المتحوصلة التي ترتجي أن تتفتّق حينما تتحسن شروط الحياة.. كانا يسكنان هناك على ربوة عالية تطلّ على بحر أزرق فاتح يوغل في الإنسحاب عند الصباح، ويعود ظهرا كي يبتلع كل ما تيبس.
فوق هذه الأرض الجافة - المبتلة كانا يجدان ما يسدّ رمقهما ويعوّض الكلس وباقي المعادن التي يفتقر إليها جسماهما النحيلان.. "عقرب بحر" يسعى على صخر منزلق، أو "برغوث شط" يتقافز بين المياه، أو حتى "بو زلفيط" يتستر بحفرة ضحلة.
كبرا الصغيران حتى صارا يافعين، فاندفع كل منهما في طريق يقود إلى درب، ثم إلى زقاق، ثم إلى خط طويل ينفصل عن باقي الخطوط.
أما "عليوه" فقد مضى في رحلة محفوفة بالكفاح والحرمان والجهد فوق جسر من الكتب إلى غابة تعجّ بالعصافير والزهور والوحوش والأشواك.. تعلّم الشاب "عليوة" كيف يأكل الحصرم مع العنب، وكيف يلعب مع الذئب والأرنب، وسار فوق الأعشاب الجافة والطرية حتى وصل إلى صومعة ناسك يقال له "سيدي العالم،" فتعلم منه كيف يزن الأشياء حسب معطياتها، وكيف يمشي حتى يرى درب النفق يستسلم إعياء فينفث نورا.. ورغم أنه كان قد تعلّم السباحة في بحور أحاطت به من كل جانب، إلا أن "سيدي العالم" علّمه كيف يغوص في أعماق لم يعهدها تزخر باللآلي، وتفيض بجوائز لا تسرق ولا تصادر.. هناك عبّ من خيرات الأعماق، وتمتع بصحبة الرفاق، وخرج حرا إلى الآفاق.
وحين عاد "عليوه" إلى منبته زار مرتع الصبا فوجد بذرتين إحدهما سوداء والأخرى بيضاء فاندفع دون تفكير يروي البذرة البيضاء حتى خرجت له جنيّة عطوف وأخرجته من الشراك التي كانت تحاول خنقه، فأخذته حتى وسط البحر الذي أحب، ورمته في "بياضة" تسبح فيها أسماك الخير، وتشدو بها عرائس البحر، فامتن لها، وشكرها، وأحبّ كل ذرة من كيانها... تذكر أن جدته "فاطمة الخضراء" قد منّته يوما بها وقالت أن أمارة حبّها إسم من خمسة أحرف يبدأ بلام وينتهي بلام.
وأما "جمولة" فقد عنّ له أن يتبع دربا آخر يقود إلى بطحاء مليئة بالحفر والشقوق التي تسرح فيها العقارب والثعابين، وتلتقي عندها طيور الشر كل ليلة كي تنعق بالخراب القادم.. كان "جمولة" صلدا كتلك الصخرة التي يسمّونها "الحاجّة" والتي تقف في منتصف الطريق بين اليابسة وبرج "أبي ليلة،" وكان جلدا متفتحا على الحياة يحلم ببحيرة قريبة يغسل فيها أدرانه ويمسحها بأشعة الشمس الودود.. كان جمولة يافعا ولكنه صغير، وكان عاقلا لكنه نزق فلما قرب من موعد إستراحته من عناء الضرب في المدى، وطلب العلا بتسلق الحفر إلى أسفل، غيّر من إنسياب خطواته وانعرج إلى باب سحري لا يدخله إلا يائس ولا يخرج منه إلا بائس.
وكما يحدث في قصص جدّاتنا فتح "جمولة" ستة أبواب فلقى فيها من صنوف المتعة ما لم يلقه بشر، فأكل وشرب، ونام وصحا في محيط من النعمة المحرمة والفكرة المكررة حتى ملّ نفسه، وخاصم روحه فعنّ له أن يفتح الباب السابع الذي أوصاه قرينه بأن لا يفتحه.
بحث جمولة النزق عن المفتاح في كل تلافيف الغرف حتى عثر عليه في حنجرة غراب أسود لا يكف عن النعيب.. غرسه في فتحة المفتاح كما كان يغرس إصبعه في الحفر النتنة فانفتح الباب عن طائر الرّخ الذي منّاه بأن يلقيه في البحر الذي يحب.
تلاقى الصديقان بعد زمن في بحيرة الأمان.. كان لون جمولة قد صار أسود بعد أن لفحته الشموس ومسحه ريش الغربان.. تبدلت أسنانه فصارت صفراء من التبغ المطعّم، وهرب الدم من خدوده فسرت بلون شاحب يكاد يطغي على كل من حوله.. تبسم فجاءت بسمته داكنة تحمل حقدا في لون القطران الذي كان يتنشقه صباحا ومساء، ثم حيى صديقه بحرارة متكلفة فلم يحس "عليوة" بأي دفء وسط البحر الناعم.
نظرا كل منهما إلى أعلى فبانت "لعليوة" الحورية الطيبة ترفرف بجناحيها الرقيقتين وتومئ له بأن يستعد لرحلة طويلة. وخرج "لجمولة" مسخ أحدب في ثياب منشأة، وحذاء لامع.. لوح له بورقة خضراء تساوي الكثير مما في جيبه، وتعد بجلب الكثير من لوازم الكيف والمتعة، وأمره بأن يسير وراء.
تبدل طبع البحر فأرغى وأزبد كجمل هائج، طار الماء حتى صار في طول جبل ، وغاص القاع حتى بلغ حِجْر الأرض.. أرخى الصديقان القديمان ذراعيهما المتشابكتين وسبحا كلٌّ يحاول النجاة.. غلبت الأمواج قدرتيهما، فسلّما أنفسهما للّج يعبث بهما حتى غابا تحت الماء كنجمتي بحر تائهتين.
بينما كان "جمولة" ينغرس بقوة عظيمة في إتجاه القاع ظهر له الشيطان الأحدب وقال: "إتبعني وسوف أنجيك!" كان المسكين يصارع الموت الذي لم يعرف من قبل في بحر لولبي الأمواج وبرد قاتم الأوداج.. تحشرج وتحشرج حتى صارت حنجرته ماء، وبلغت الغرغرة التراقي، فمد يده البائسة ليحمله رفيقه الأحدب مرتفعا به إلى الأسفل.
أما "عليوة" فقد شرب من ماء البحر جرعات وجرعات حتى ثقل جسده وغاب بصره، تحشرج وتحشرج ولكن بقيت بصيرته تحتفظ به مضيئا في ظلمات البحر العميق.. كان ينحدر بسرعة عجيبة ولكنه لم يكن خائفا فالموت في سجل حياته كان مكتوبا بحبر الرحمة.. في ظلمة الظلمة المتلفعة بالبرد البارد ظهرت له الحورية وقالت: "إتبعني ولا تخف!" وانحدرت به إلى الأعلى.
فاق جمولة في عهدة مخلوق بلا عيون ولا قلب، ذاب بصره وغابت بصيرته، فانثنى لا يحفل بشيء إلا بشيخ أعرج يعتمر قلنسوة خضراء، ويمشي على عكاز أجرد يسابق الراكضين بقفزات مترنحة وصيحات مشؤومة، وحين سأل قيل له هذا المسخ إسمه "دولار،" ولصاحبك الأحدب منه الكثير.. أنت أخترت الطريق ولا رجعة منها فضع الشمس خلفك وسر إلى صقيع النسيان.
ثقلت على "عليوة" وطأة القاع المضئ حيث وجد نفسه وحيدا يشعر بالإختناق ولا يختنق، ويحس بثقل الهواء ويتنفس حتى دخل فقاعة بيضاء حيث امتد له حبل سري فعاد إليه وعيه الكامل، وحسه السليم.. مد يديه يتبع الحبل الممدود حتى وصل منتهاه فوجد قلبا وعينين يحضنانه بحنان.. ناغته الجنية وقالت: "لقد عدت لرحم أمك!"